رأي: محاكمة تاريخية تضع مؤسسات العدالة في جنوب السودان أمام امتحان النزاهة والاستقلالية

شهدت العاصمة جوبا صباح اليوم الاثنين، الموافق 22 سبتمبر الجاري، حدثًا قضائيًا غير مسبوق تمثل في انعقاد الجلسة الأولى لمحاكمة الدكتور رياك مشار، النائب الأول للرئيس المعلّقة مهامه، إلى جانب سبعة من كبار قيادات الحركة الشعبية المعارضة (SPLM-IO). وقد عُقدت الجلسة في قاعة الحرية وسط حضور قضائي وإعلامي واسع، حيث وُجّهت إلى المتهمين اتهامات خطيرة تشمل القتل، الخيانة العظمى، التآمر، تمويل الإرهاب، والجرائم ضد الإنسانية.

لكن ما جرى في القاعة لم يكن مجرد استماع رسمي للتهم، بل بدا منذ اللحظة الأولى اختبارًا حقيقيًا لمدى استقلال القضاء في جنوب السودان. فقد جاءت مرافعات هيئة الدفاع عن الدكتور مشار قوية ومتماسكة، لتضع المحكمة أمام سؤال مصيري: هل ستتمكن من تطبيق القانون بميزان العدالة وحده، أم أن ضغوط السياسة ستفرض كلمتها؟

القضاء تحت المجهر

إن قرار بث جلسات المحاكمة مباشرة أمام الرأي العام خطوة غير مسبوقة أعطت القضية زخمًا كبيرًا، لكنها في الوقت ذاته وضعت السلطة القضائية تحت الأضواء الكاشفة:

هل ستثبت نزاهتها في مواجهة الضغوط السياسية والأمنية؟

أم ستتراجع أمام حسابات القوى المتصارعة؟

ومن الضروري أن تمتد التغطية الإعلامية لتشمل ليس فقط القنوات الوطنية، بل أيضًا المنصات الإقليمية والدولية، حتى يصل صوت هذه المحاكمة إلى الرأي العام العالمي. فهذا من شأنه أن يعزز مبدأ الشفافية ويضع القضاء أمام رقابة مجتمعية ودولية مضاعفة.

هذه التساؤلات لا تخص المحكمة وحدها، بل تمس صورة الدولة بأكملها، ومدى قدرتها على أن تبرهن للعالم أنها دولة قانون لا دولة أهواء.

الشارع كحَكَم موازٍ

الرأي العام حاضر بقوة في هذه المحاكمة، لا كمتفرج بل كـ”قاضٍ موازي”. فالجمهور الذي تابع البث المباشر لم يعد يسأل فقط عن مصير المتهمين، بل يسأل أيضًا عن مصداقية الحكومة وجدية مؤسسات العدالة. ومن هنا يتضح أن الحكم النهائي لن يُكتب في أوراق القضاة وحدهم، بل أيضًا في وعي الشارع.

البعد السياسي للقضية

لا يخفى أن د. رياك مشار ليس مجرد متهم عادي، بل هو رمز سياسي وقائد معارضة شارك في اتفاقيات سلام تاريخية، وكان شريكًا أساسيًا في الحكم الانتقالي. ولذلك فإن أي حكم بحقه ستكون له انعكاسات سياسية عميقة:

إما أن يُقرأ باعتباره انتصارًا للعدالة وسيادة القانون.

أو يُفهم كضربة سياسية لمشروع تقاسم السلطة الهش، بما قد يترتب عليه من تداعيات خطيرة على مسار السلام.

محاكمات صنعت التاريخ… دروس للعبرة

ليست هذه المرة الأولى التي يُوضع فيها قادة سياسيون أمام القضاء. فقد شهد العالم محاكمات فارقة صنعت التاريخ:

في جنوب أفريقيا، مثّلت لجان الحقيقة والمصالحة (1995–1998) تجربة فريدة جمعت بين العدالة والمصالحة الوطنية.

في سيراليون، أدانت المحكمة الخاصة قادة الحرب وحتى رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور، في رسالة واضحة بأن لا أحد فوق القانون.

على النقيض، تحوّلت محاكمة الرئيس الأسبق حسني مبارك في مصر إلى ساحة صراع سياسي وأفرزت براءات مثيرة للجدل.

أما محاكمة صدام حسين في العراق فقد بدت نموذجًا للعدالة الانتقامية التي عمّقت الانقسام.

فهل تُسجَّل تجربة جوبا كإضافة مشرفة إلى سجل العدالة في إفريقيا، أم تتكرر إخفاقات المنطقة حيث تغلب السياسة على ميزان القانون؟

خاتمة: اختبار لمستقبل الدولة

من وجهة نظري، هذه المحاكمة تمثل اختبارًا مصيريًا لجنوب السودان. فهي ستحدد ما إذا كانت البلاد تسير نحو بناء نظام قضائي مستقل يضع الجميع تحت مظلة القانون، أم أن العدالة ستظل أداة في يد السياسة.

الأيام القادمة ستكون كفيلة بكشف الحقيقة:

هل سيُسجل التاريخ هذه اللحظة كولادة جديدة للعدالة والشفافية؟

أم سيُذكر أنها كانت محطة أخرى في مسار الإحباط وفقدان الثقة؟

إن نجاح هذه المحاكمة أو سقوطها لن يُقاس فقط بما يخرج من قاعة المحكمة، بل بما سيبقى في ذاكرة الشعب كمعيار لمستقبل العدالة في جنوب السودان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية الكاتب/ة، وليست راديو تمازج