بعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب السودانية، بدأت واشنطن في فرض عقوبات، وسط تساؤلات عن التوقيت، والجدوى، وتوظيفها السياسي.
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، راقب المجتمع الدولي المشهد بصمت ثقيل، بينما كانت المجازر والإعدامات والتجويع الجماعي ترتكب بحق المدنيين، وتلاحق تقارير عدة أطراف باستخدام اسلحة محرّمة دوليًا.
لكن رغم هذه الفظائع، يرى عدد من المراقبين أن العقوبات الأميركية المباشرة المرتبطة بالحرب حتى منتصف 2024 تأخرت ما أثار انتقادات واسعة.
توازنات
يقول الدبلوماسي الصادق المقلي إن العقوبات الأميركية الأخيرة ليست جديدة بالكامل، بل تستند إلى قانون أميركي صدر عام 1991 يختص بحظر الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. لكنه يؤكد أن السياق أعمق من مجرد نص قانوني، ويتصل بتأرجح واشنطن بين الضغوط الأخلاقية وحسابات الجغرافيا السياسية.
ويشير إلى أن الولايات المتحدة أحجمت عن اتخاذ موقف صارم في وقت مبكر، بسبب غياب حكومة مدنية يمكن التعامل معها، وتردّدها في الإضرار بعلاقاتها مع حلفاء إقليميين يدعمون أطرافًا في النزاع، مثل مصر والإمارات.
“الموقف كان دائمًا انتقائيًا”، يقول المقلي، مضيفًا أن الحذر الأميركي يكشف عن ازدواجية في تطبيق المعايير.
أداة محلية بأثر دولي
في 25 يونيو 2025، أعلنت واشنطن عقوبات جديدة استهدفت القوات المسلحة السودانية، متهمة إياها باستخدام أسلحة كيميائية. ويوضح الخبير القانوني المعز حضرة أن هذه العقوبات تستند إلى المادة 306a من قانون أميركي صدر عام 1991 يجرّم استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية خارج الولايات المتحدة، لكنها تتقاطع أيضا مع قواعد القانون الدولي الإنساني، ما يمنحها بعدا دوليا.
يضيف حضرة “هذه العقوبات ليست مجرد إجراء ثنائي، بل تمهّد قانونيًا لمسار دولي، لأنها تشير إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، مشيرًا إلى أن صدور القرار الأميركي ربما استند إلى تحقيقات ميدانية في مناطق مثل الخرطوم وجزيرة توتي، بالتعاون مع منظمات دولية، وعلى رأسها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
مطالبة بتحقيق دولي سريع
في موازاة ذلك، أصدر الحزب الشيوعي السوداني بيانًا يوم السبت 14 أبريل، طالب فيه بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة وسريعة، محذرًا من ضياع الأدلة في حال تأخر التحقيق. ويقول صدقي كبلو، عضو المكتب السياسي للحزب.
“لا ثقة لدينا في لجان التحقيق الوطنية، فجميعها فشلت في الماضي، وانحازت للسلطة، أما اللجان الإقليمية التابعة للاتحاد الأفريقي أو الجامعة العربية، فهي الأخرى غير موثوقة بسبب علاقاتها المتشابكة بأطراف النزاع”.
وأكد كبلو أن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية هي الجهة الأنسب للتحقيق، لامتلاكها القدرات الفنية والاستقلالية المطلوبة. وأضاف أن حزبه لا يكتفي بالإدانة إن ثبت استخدام الأسلحة الكيميائية، بل يطالب بمحاسبة الجناة أمام المحكمة الجنائية الدولية، رغم تحفظه على بطء إجراءاتها.
الجيش يرد
القيادة العامة للجيش السوداني سارعت إلى رفض القرار الأميركي، ووصفت الاتهامات بـ”المزاعم غير المثبتة”، معتبرة أن العقوبات تتعارض مع “جهود استعادة النظام والسلام”. وأعلنت تشكيل لجنة وطنية للتحقيق، لكن المعز حضرة اعتبر هذه الخطوة “محاولة لامتصاص الضغوط الدولية”، مشبهاً إياها بلجان سابقة شُكلت بعد اتهامات الإبادة الجماعية في دارفور دون نتائج حقيقية.
ويؤكد حضرة أن البيئة العدلية داخل السودان غير صالحة حاليًا لأي محاسبة، بسبب “سيطرة المكون العسكري على أجهزة القضاء، وتوظيف البلاغات الكيدية ضد الخصوم السياسيين”، لكنه شدد على أهمية توثيق الجرائم بشكل دقيق من قِبل المجتمع المدني، باعتبار ذلك “نواة لأي عدالة مستقبلية”.
الفيتو الروسي
على خلفية تصاعد الاتهامات، يرى كبلو أن القضية قد تُستغل سياسيًا للضغط على الجيش ودفعه نحو التسوية، لكنه يحذر من أن “الملف غير متوازن”، حيث تُغضّ واشنطن الطرف عن انتهاكات قوات الدعم السريع، التي وصفها بأنها “ميليشيا إرهابية”. من جهته، شدد حضرة على أن القانون الدولي لا يميز بين الأطراف، لكنه أقر بأن “التزام المجتمع الدولي بمبدأ الحياد يواجه اختبارًا صعبًا في ظل الصراع الجيوسياسي بين واشنطن وموسكو”، مرجحًا استخدام روسيا للفيتو في مجلس الأمن لعرقلة أي مساءلة أممية.
جدوى العقوبات
يرى خبير الاقتصاد لؤي عبد التام أن العقوبات لا تؤثر فعليًا على الحكومة السودانية، التي لا تتلقى مساعدات أميركية مباشرة، بل تؤثر على الشعب من خلال ضرب الجنيه، وارتفاع أسعار السلع، وتقليص الإمدادات الطبية. ويضيف أن واشنطن “تتجاهل جرائم الدعم السريع”، وتسعى فقط لـ”تقويض مكاسب الجيش ورفع معنويات خصومه”.
ويشاركه الصادق المقلي هذا التقييم، معتبرًا أن السودان عاد إلى “مربع العزلة الاقتصادية”، وأن العقوبات تفقد معناها ما لم تقترن بحل سياسي شامل.
آليات ضغط سياسي
يشكّك كبلو في مصداقية الغرب، مستحضرًا تجارب سابقة في السودان والعراق، حيث استُخدمت مزاعم الأسلحة المحرمة كغطاء سياسي. “نحن لا نثق في النوايا الغربية، ولا نرحب بأي تدخل أجنبي، بل نطالب بتحقيق نزيه مستقل لا تتدخل فيه قوى دولية لصالح هذا الطرف أو ذاك”، حسب قوله.
لكن المعز حضرة يرى أن العقوبات، رغم محدوديتها، تفتح الباب أمام تحقيق دولي، أو حتى تدخل من المحكمة الجنائية الدولية، إذا ما تبنّى مجلس الأمن أو مجلس حقوق الإنسان القضية، رغم احتمالات التعطيل من قبل روسيا أو الصين.
في ظل حرب بلا نهاية، تبقى الحقيقة الخطوة الأولى نحو العدالة. سواء ثبت استخدام الأسلحة الكيميائية أو لم يثبت، فإن تشكيل لجنة دولية مستقلة –كما طالب الحزب الشيوعي– بات ضرورة لا تحتمل التأجيل، حفاظًا على الأدلة، وحقًا للضحايا، ومنعًا لتكرار الجرائم. أما العقوبات، فإنها تبقى، كما يقول المقلي، “ورقة تفاوض في لعبة دولية معقدة”، لا يمكن أن تحل محل تسوية وطنية شاملة، تُنهي الحرب، وتعيد بناء الدولة على أساس العدالة والمساءلة.