كشف تقرير حديث صادر عن لجنة خبراء الأمم المتحدة عن صورة مقلقة للغاية للوضع المالي في جنوب السودان. التقرير، الذي اطلعت عليه راديو تمازج، لا يسلط الضوء فقط على التناقضات الصارخة في سجلات الإنفاق الحكومي للعام المالي 2023/2024، بل يفضح أيضاً الديون المتراكمة وتحويلات الأموال “المشبوهة” التي تثير تساؤلات جدية حول الشفافية والمساءلة. ومع اعتماد الدولة بالكامل تقريبا على عائدات النفط، تشير النتائج إلى أن ضعف الرقابة وسوء الإدارة قد يعمقان الأزمات الحالية، بما في ذلك أزمة رواتب الموظفين الحكوميين المستمرة.
وذكر التقرير أن الحكومة تمكنت بذلك من إنفاق إجمالي قدره 2.43 تريليون جنيه جنوب سوداني مقابل ميزانية تبلغ 1.78 تريليون جنيه فقط، ويعتمد اقتصاد جنوب السودان بشكل شبه كامل على مبيعات النفط.
ويشير التقرير إلى أنه وفقا للوثائق أنفسهم، تلقت كل فئة من فئات الإنفاق الميزانية أقل من المبلغ المخصص لها، ويذكر التقرير “أكدت الحكومة منذ ذلك الحين، على سبيل المثال، أن أقل من نصف ميزانية الرواتب قد دُفِعَت”.
ويواجه جنوب السودان حالياً أزمة رواتب حكومية حادة، مع تقارير واسعة النطاق عن تأخر وعدم دفع رواتب الموظفين المدنيين، بمن فيهم المعلمون والأطباء وأفراد الأمن. وترتبط هذه الأزمة ارتباطا وثيقا بالصعوبات الاقتصادية في البلاد، وخاصة اعتمادها على عائدات النفط وتأثير النزاع المستمر.
ويشير تقرير الأمم المتحدة إلى أنه نظرا لمركزية التحكم في الموارد العامة لجنوب السودان، فإنها كانت عرضة للضغوط السياسية وسوء التخصيص والتحويل.
ويكشف التقرير أن المسؤولين العموميين والمجتمعات التي تعتمد عليهم غالبا ما ينظرون إلى تخصيص الإيرادات على أنها منافسة صفرية للحصول على مجموعة محدودة من الموارد.
ويقتبس الفريق من مسؤول سابق قوله “تعلم أنه يمكن إقالتك في أي وقت”، مشيراً إلى أن جميع المسؤولين العموميين في جنوب السودان تقريبا كانوا متحمسين “لدفع العقود والحصول على عمولات”.
ويوضح التقرير أنه “غالبا ما يملي كبار المسؤولين داخل مكتب الرئيس ووزارة المالية والتخطيط على الشركات التي تحصل على شحنات النفط الخام التي تبيعها الحكومة، على الرغم من أن عملية المزاد تحدد السعر، وغالبا ما تكون هذه الشركات على استعداد لدفع نسبة كبيرة من قيمة الشحنة قبل أشهر قليلة من استلامها، وفي بعض الحالات، يمنح كبار المسؤولين الشحنات لشركات محلية مفضلة، والتي تقوم بعد ذلك ببيعها لتجار دوليين أكبر، مع حصول الشركات المحلية غالباً على رسوم كبيرة.
ويشير مسؤول سابق وفقا لتقرير، إلى وجود العديد من المسؤولين العموميين الذين قاوموا الإغراءات.
ويوضح التقرير أن عائدات النفط كانت تودع في حساب الحكومة لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، ومنه تم تحويل الأموال إلى بنوك مختلفة في كينيا وأوغندا والإمارات العربية المتحدة، وسُدِّدَت دفعات أكبر مباشرة من هذه الحسابات، بينما تم شحن بعض النقد جواً إلى جوبا.
ويتابع “في بعض الحالات، يسعى المسؤولون إلى التحايل على هذه الآليات عن طريق توجيه مشتري النفط لدفع المدفوعات مباشرة لأطراف ثالثة، على سبيل المثال، في إحدى الحالات، طُلب من أحد التجار دفع باقي عائدات شحنة نفط خام واحدة إلى شركة أموك للتجارة العامة، والتي سبق للفريق أن أبلغ عنها بأنها مورد رئيسي للإمدادات الغذائية خارج الميزانية لقوات دفاع شعب جنوب السودان. وتنتهك هذه الترتيبات قانون جنوب السودان، الذي يتطلب إيداع جميع عائدات النفط أولاً في الحسابات الحكومية، ولم يتمكن الفريق من تحديد ما إذا كان المشتري قد اتبع هذه التعليمات”.
ويستشهد التقرير بأكبر عملية تحويل منذ عام 2018، كتخصيص مئات الملايين من الدولارات سنويا لبرنامج النفط مقابل الطرق. وفقاً للأرقام الصادرة عن وزارة المالية والتخطيط، على سبيل المثال، خلال السنة المالية 2023/2024، تم تخصيص 378 مليار جنيه جنوب سوداني للبرنامج، أي ما يقرب من 414 مليار جنيه جنوب سوداني المخصصة لرواتب الحكومة ونفقاتها التشغيلية.
ويكشف التقرير أن سرقة أموال الدولة أدت في بعض الأحيان إلى نزاعات، خاصة عندما كانت الموارد غير كافية لتلبية المطالب المتنافسة. ففي نوفمبر 2023، على سبيل المثال، اشتكى مسؤول كبير من أن وزارة المالية والتخطيط سمحت لتاجر بالاحتفاظ بأكثر من 9 ملايين دولار كجزء من سداد دين مستحق. وجادل المسؤول بأن المبلغ كان يجب أن يدفع عوضا عن ذلك لشركة تعمل في بناء القصر الرئاسي الجديد في جوبا.
وبحسب التقرير، كان التنافس على موارد جنوب السودان المتناقصة واضحا في علاقة البلاد مع المقرضين التجاريين الذين قدموا عدة مليارات من الدولارات في شكل قروض منذ حوالي عام 2012. يتعين على الحكومة خدمة هذه القروض، التي يحمل العديد منها أسعار فائدة عالية، بمدفوعات منتظمة. ومع ذلك، منذ حوالي عام 2018، توقفت الحكومة إلى حد كبير عن سداد هذه القروض.
نتيجة لذلك، في تقريرها المؤرخ 29 أبريل 2024 (S/2024/343)، أفاد الفريق أنه في يناير 2024، حكم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بأن حكومة وبنك جنوب السودان المركزي يدينان لبنك قطر الوطني بمبلغ 1.2 مليار دولار أمريكي كقروض وفوائد غير مدفوعة.
في 31 يناير 2025، ظهر البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد أيضا في المحاكم التجارية في لندن زاعما أن حكومة جنوب السودان مدينة بمبلغ 657 مليون دولار أمريكي كقروض وفوائد غير مدفوعة مدعومة بالنفط، منها 640 مليون دولار أمريكي مضمونة من قبل البنك المركزي لجنوب السودان.
وفقاً لوثائق المحكمة، اقترض جنوب السودان 400 مليون دولار أمريكي في عام 2019، و 63 مليون دولار أمريكي في أغسطس 2020، و 250 مليون دولار أمريكي إضافية في ديسمبر 2020. وقد سعت الحكومة أيضاً لاقتراض مليار دولار أمريكي إضافية في أكتوبر 2023 ومليار دولار أمريكي إضافية في يناير 2024. لم تعترض جوبا على المطالبات ولم تشارك في إجراءات المحكمة، وفقاً للفريق.
وقال التقرير إن الديون التجارية المتراكمة لجنوب السودان الآن تجاوزت على الأرجح 2.1 مليار دولار أمريكي على الأقل، أي ما يعادل عاما إلى عامين من إجمالي إيرادات النفط الحكومية قبل خرق خط الأنابيب.
بحسب التقرير حُوِّلَت الإيرادات من مؤسسات لا تشكل جزءاً من عملية الميزانية الرسمية. في 9 سبتمبر 2022، أبلغت شركة بتروناس الدولية المحدودة حكومة جنوب السودان عزمها بيع أسهمها في جميع الشركات التشغيلية المشتركة الثلاث التي تنتج النفط في جنوب السودان. بعد عملية مطولة، في 23 يناير 2024 و 5 مارس 2024، أبلغت الحكومة بتروناس أنها لن توافق على البيع وبدلا من ذلك وجهت الشركة لتسليم أصولها إلى شركة نايلبت. وفي أغسطس 2024، بدأت بتروناس إجراءات التحكيم ضد حكومة جنوب السودان في المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.
وأُنْشِئ فريق الخبراء عملاً بالقرار 2206 (2015) في 3 مارس 2025، وتم النظر فيه من قبل اللجنة في 1 يوليو 2025.