بعد نحو عقدين من الجمود، اتخذ جنوب السودان خطوة رئيسية نحو إقرار سياسته الوطنية للأراضي، والتي طال تأجيلها. فقد جمعت محاضرة عامة، نظمتها المنظمة الدولية للهجرة في جوبا، مسؤولين وطنيين، ووزراء ولايات، وخبراء في شؤون الأراضي، وممثلين عن المجتمع المدني، وشركاء تنمية، بهدف مواجهة التحديات العميقة المتعلقة بإدارة الأراضي ورسم مسار جديد للمستقبل.
المحاضرة، التي عُقدت تحت شعار “الحوار الشامل والإصلاح المؤسسي”، أتاحت مساحة للمواطنين للتفاعل المباشر مع المسؤولين الحكوميين وطلب الإجابات بشأن قضايا الأراضي التي طال أمدها. وقد تركز النقاش على الحاجة الملحة لتفعيل السياسة الوطنية للأراضي، وهو الإطار القانوني الذي بدأت صياغته في عام 2006، لكنه تأجل مرارا بسبب النزاعات وعدم الاستقرار السياسي.
وقالت أية أوناديم أجامي، رئيسة برنامج الإسكان والأراضي والممتلكات في المنظمة الدولية للهجرة: “هذا الحدث ليس سوى البداية، ونريد إنشاء منصة يستطيع من خلالها شعب جنوب السودان التحدث مع الحكومة، وتستجيب فيها الحكومة بوضوح بشأن سياسات الأراضي والإصلاحات والحقوق”.
وأوضحت أجامي أن المنظمة الدولية للهجرة عملت على مدار السنوات الثلاث الماضية على تعزيز أنظمة إدارة الأراضي وتسوية النزاعات، خاصة وأن جنوب السودان يواصل استقبال العائدين من الحرب في السودان.
وأضافت: “العديد من العائدين لا يملكون أوراقا ثبوتية أو وثائق للأراضي. وبعضهم يُحرم من الوصول إلى قطع أراضيهم الخاصة”.
وتابعت: “لقد عملنا مع مفوضية شؤون اللاجئين والحكومة لمساعدة هؤلاء الأفراد على استعادة أراضيهم، والحصول على الوثائق، وفهم حقوقهم القانونية”.
وقدم جورج ريتي ريتشارد، من وزارة الأراضي والإسكان والتخطيط العمراني، سردا تفصيليا لمسار السياسة الوطنية للأراضي. وأشار إلى أن السياسة صيغت لأول مرة بين عامي 2006 و2013 من خلال مشاورات عامة، وقُدمت إلى الجمعية الوطنية في عام 2014، لكنها تعرضت للتهميش لاحقا بسبب النزاع وغياب الزخم السياسي.
وقال: “من 2014 إلى 2017، تم تجاهل السياسة، وهذا التأخير حرم البلاد من فرصة إدارة الأراضي والموارد القائمة عليها بطريقة مستدامة وشاملة”.
وأبان أن بدعم فني ومالي من المنظمة الدولية للهجرة، خضعت السياسة لمراجعة شاملة في عام 2019. وفي النهاية، وافق عليها “المجلس الاقتصادي” الحكومي في يوليو 2023، ثم أقرها مجلس الوزراء في أكتوبر، وهي الآن بانتظار الموافقة النهائية من الجمعية التشريعية الوطنية الانتقالية.
ووصفت دوروثي درابوقا، رئيسة التحالف الوطني للأراضي بجنوب السودان، المحاضرة بأنها خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها حذرت من أن قطاع الأراضي لا يزال متحيزا بشدة ضد المرأة. وقالت: “حقوق المرأة في الأراضي منصوص عليها في الدستور، لكنها عمليا تُستبعد في كثير من الأحيان، خاصة في مسائل الميراث. وأن معظم هيئات الوساطة ومؤسسات الأراضي يهيمن عليها الذكور.
وتابع: “نحن بحاجة إلى تمثيل المرأة في أدوار صنع القرار في جميع سلطات الأراضي بالولايات واللجان المعنية”.
ودعت درابوقا، إلى بناء القدرات بشكل عاجل، مشيرة إلى أن العديد من المؤسسات المحلية المعنية بالأراضي إما غير موجودة أو تفتقر إلى التدريب والتنسيق، كما أثارت مخاوف بشأن التناقض بين القانون الرسمي والقانون العرفي، خاصة عندما يؤدي الأخير إلى إجحاف بحق النساء والفئات الضعيفة.
وأضافت: “يجب علينا مواءمة هذه القوانين وضمان ألا تتجاوز الأعراف العرفية الحقوق الدستورية”.
واستغل وزراء من الولايات المنصة لعرض تحديات إدارة الأراضي في مناطقهم، ففي ولاية أعالي النيل، وصف الوزير مايكل نياضو، كيف يفتقر آلاف النازحين والعائدين إلى المأوى أو الوصول إلى الوثائق القانونية.
وقال: “بعض هؤلاء الأشخاص لا يملكون سجلات، ولا وسيلة لإثبات ملكيتهم، ولقد بنينا 326 مأوى للعائدين، لكننا ما زلنا نفتقر إلى الطرق ونقاط المياه، وموسم الأمطار يجعل الوصول شبه مستحيل”.
وفي ولاية الوحدة، كشف الوزير استيفن كوين، أن 95% من الأراضي حول “بنتيو”، غمرتها المياه بسبب الفيضانات.
وأضاف: “ما زلنا نستخدم أنظمة يدوية لتسجيل الأراضي، ومعظم سجلاتنا باللغة العربية، ونحن بحاجة إلى الترجمة والرقمنة والأدوات اللازمة”.
وتابع أن حوالي 45 كيلومترا مربعا من الأراضي قد تم استصلاحها، وستكون جاهزة لإعادة التوطين بحلول عام 2025 بدعم من المنظمة الدولية للهجرة.
على الرغم من الحقائق الصعبة التي تمت مشاركتها، عبر المسؤولون عن تفاؤلهم بأن الزخم أصبح في صالحهم الآن.
وقال ريتشارد: “التأخير أصبح فرصة، ولدينا الآن مسودة أقوى وأكثر شمولا، وتشكلت من خلال تجارب الحرب واستفادت من التحديات الحالية”.
وأكدت أية أجامي، مجددا أن دور المنظمة الدولية للهجرة هو دور تسهيلي وليس سياسيا. وقالت: “الحكومة هي التي تقود، مهمتنا هي توفير المساحة وتقديم المساعدة الفنية حتى لا تظل السياسات مجرد وثائق، بل تصبح أدوات للعدالة والاستقرار”.
وبينما يستعد جنوب السودان للانتخابات العامة في عام 2026، يظل إصلاح الأراضي قضية حيوية. فمع وجود الملايين من النازحين الذين لم يعودوا إلى ديارهم، يعد الصراعات المستمرة على الأراضي غير المسجلة، أصبحت الحاجة إلى العمل ملحة.