المسافة القاتلة: حين يفصل الماء والتقاليد نساء ولاية الوحدة عن شريان الحياة

في ولاية الوحدة بجنوب السودان، لا تُقاس المسافات بالكيلومترات فحسب، بل تُقاس بالدقائق الضائعة، وبمنسوب مياه الفيضانات، وبكلمة “لا” التي قد ينطق بها رجل يملك حق تقرير المصير عن امرأة تنزف. هنا، المأساة ليست دائمًا في غياب المساعدة، بل في عجزها عن الوصول إلى من يحتاجها في الوقت المناسب.

على الخرائط الرسمية، تبدو العيادات موجودة، والبرامج الإغاثية ممولة، ومسارات الإحالة الطبية واضحة في الأوراق الحكومية. لكن على أرض الواقع، ينهار هذا النظام أمام واقع مرير من العزلة الجغرافية والقيود الثقافية المتجذرة.

كلير ناكاليمو، أخصائية الصحة الإنجابية في منظمة “كوردايد” (Cordaid)، تعيش هذا السباق الخاسر يوميًا. تحكي بحسرة عن ناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي يصلن إلى العيادة بعد فوات الأوان.

تقول كلير: “يصلن إلينا بعد أيام من الاعتداء، متجاوزات نافذة الـ 72 ساعة الحرجة لمنع الحمل الطارئ أو الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية. الخدمات موجودة خلف جدراننا، لكن الطرق إليها كانت مسدودة بأجسادهن المنهكة والفيضانات التي حوّلت قراهن إلى جزر معزولة”.

تحولت مساحات شاسعة من ولاية الوحدة إلى أرخبيل من الخيام المحاصرة بالمياه. في مخيمات النزوح المكتظة في “روبكونا”، تلاشت الخصوصية. يصف الدكتور أنور زكريا أنور، من منظمة “كوردايد”، المشهد قائلًا: “يعيش الناس في كتل بشرية، خيام بلا أبواب، ولا فواصل بين الرجال والنساء أو الكبار والصغار. هذا الازدحام ليس مجرد ضيق عيش، بل هو فتيل يشعل العنف”.

تجد النساء أنفسهن في خطر دائم؛ فمجرد الخروج لجلب الحطب أو الذهاب إلى السوق يجعلهن عرضة للاعتداء. ومع تدمير الفيضانات للطرق، يصبح الوصول إلى الطبيب رحلة شاقة قد تنتهي قبل أن تبدأ.

لكن العوائق ليست كلها طبيعية. أحيانًا، يكون الحاجز بشريًا بامتياز. يروي الدكتور أنور حالات وقفت فيها الطواقم الطبية عاجزة أمام امرأة في حالة حرجة تحتاج لجراحة طارئة، بينما يرفض ولي أمرها (الزوج أو القريب) منح الموافقة.

يستذكر حالة في مستشفى “بانتيو” العام، حيث لم تُنقذ حياة امرأة من نزيف حاد إلا بعد تدخل كبار مسؤولي الصحة في الولاية لكسر قرار العائلة. يقول أنور بمرارة: “هذه القرارات ليست طبية، إنها ثقافية.. وهي تكلّف الأرواح”.

تدير الأمم المتحدة ووزارة الصحة مراكز صديقة للنساء ومرافق صحية، لكن العاملين في الخطوط الأمامية يعترفون بالفجوة. “إذا احتاجت ناجية في منطقة (ميانديت) إلى رعاية مستشفى، فقد لا تجد قارباً ولا طريقاً ولا وسيلة نقل”، يوضح الدكتور أنور الذي يشرف على 16 مرفقاً صحياً. “مسار الإحالة موجود نظرياً، لكنه غارق عملياً”.

ورغم أن الأرقام تشير إلى وصول أكثر من 53,700 شخص لخدمات الصحة الإنجابية هذا العام، إلا أن هذا الرقم لا يشمل أولئك الذين ظلوا عالقين في صمتهم، أو الذين منعتهم الإعاقة من الحركة، أو الرجال والفتيان الذين يمنعهم “الوصم الاجتماعي” من الاعتراف بتعرضهم للعنف.

في ولاية الوحدة، تجمعت الأزمات دفعة واحدة: صراع مسلح، فيضانات تاريخية، ونزوح مستمر. لكن الخطر الأكبر الذي يواجه النساء هناك ليس نقص الدواء، بل تلك المسافة القاتلة — المادية والثقافية والاجتماعية — التي تفصلهن عن حقّهن في النجاة.