صعود رجل الأعمال إلى قمة السلطة في جنوب السودان
هذا التقرير هو إحدى إصدارات راديو تمازُج ضمن سلسلة تحقيقات تسلط الضوء على السيرة الذاتية للنائب السابق للرئيس، الدكتور بنجامين بول ميل. ويقدم التحقيق تحليلاً معمقاً لمسيرته السياسية، ونفوذه المتعاظم، ودوره المحوري في التاريخ الحديث لجمهورية جنوب السودان.
الصعود السياسي والنفوذ في بلاط كير
بدأ بنجامين بول مل مسيرته بتقديم نفسه كرجل أعمال، لكنه صعد بعد ذلك بهدوء وثبات تحت رعاية الرئيس سلفا كير ميارديت. عمل الرئيس كير على دعمه وتقوية نفوذه بشكل مباشر، حتى أصبح بول ميل يتمتع بموقع شبه منيع داخل المشهد السياسي في البلاد.
قبل بضع سنوات، تم تعيينه مبعوثًا رئاسيًا أقدم للبرامج الخاصة، وسرعان ما تبع ذلك ترقيته السريعة إلى منصب النائب الأول للأمين العام لحزب الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM). والأهم من ذلك، كان كير قد دفع به لشغل عضوية كل من المكتب السياسي للحزب (وهي أعلى هيئة قيادية) والمجلس الوطني للتحرير. وقد تم هذا الصعود دون أن يتدرج بول مل رسمياً في الهياكل التنظيمية للحزب، مما أثار استياء الأعضاء القدامى الذين لا يزالون ينظرون إليه كشخص دخيل أو “طارئ” وعميل مخلص للرئيس كير. وفي 10 فبراير، جاء التعيين الأبرز، حيث عينه كير نائبًا للرئيس، خلفًا للدكتور جيمس واني إيقا المخضرم.
لم يكن هذا التعيين مفاجئاً لأحد، إذ كان نجم بول مل في صعود مستمر داخل الدائرة الرئاسية، وكانت الشائعات تنتشر منذ عامين بأن الرئيس يخطط لجعله خليفته. ونادرًا ما تخطئ الشائعات في جنوب السودان، لكون الحقيقة غالباً ما يتم تداولها بين الناس، حتى لو كانت في شكل همسات.
من الأهمية القصوى الإشارة إلى أن بول مل هو شريك أعمال رئيسي للرئيس كير وعائلته، ويُدير صفقات غير مشروعة ومربحة تعتمد على اختلاس وتحويل الأموال العامة لصالحهما المشترك.
النشأة والتحاق بـ”الجيش الأحمر”
ولد بنجامين بول ميل في أواخر عام 1978 في قرية مكواج أطيان، التي تقع حالياً ضمن مقاطعة أويل الشرقية بولاية شمال بحر الغزال في جنوب السودان. وفي طفولته المبكرة، وكحال آلاف الأطفال الآخرين، سافر سيرًا على الأقدام إلى منطقة ديما في إثيوبيا بعد وقت قصير من بدء حرب العصابات التي شنتها الحركة الشعبية/الجيش الشعبي في أوائل عام 1983.
أطلق الدكتور جون قرنق، الزعيم المؤسس للحركة الشعبية/الجيش الشعبي، على هؤلاء الأطفال الذين لم يكونوا مؤهلين للقتال اسم “الجيش الأحمر”. وقد وُضعوا في مخيمات مؤقتة حيث تلقوا تعليمًا أساسيًا، على وعد بأنهم يمثلون مستقبل الثورة والقادة القادمين.
غير أن الوضع السياسي في إثيوبيا بدأ يتدهور؛ فبحلول عام 1990، كان الاتحاد السوفيتي قد سحب دعمه المالي والعسكري لنظام منقستو هايلي ماريام. أدى سحب الدعم السوفيتي إلى إضعاف سلطة منقستو، وفي مايو 1991، تقدمت قوات الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية (EPRDF) نحو أديس أبابا، مما أجبر منقستو على الفرار إلى زيمبابوي.
مثلت الحرب في إثيوبيا نكبة للحركة الشعبية/الجيش الشعبي، التي نقلت مكاتبها لاحقًا إلى العاصمة الكينية، نيروبي. اضطر اللاجئون السودانيون وعناصر الحركة الشعبية/الجيش الشعبي في غرب إثيوبيا إلى الرحيل على عجل وبطريقة فوضوية نحو المناطق “المحررة” في السودان، بينما سار أفراد “الجيش الأحمر” بشق الأنفس إلى مخيم كاكوما للاجئين وإلى شرق الاستوائية في السودان. وقد توفي الكثيرون منهم على طول الطريق.
الانتقال إلى أوغندا والدراسة
من اللافت للنظر كيف تمكن بول مل، كونه قاصراً وعضواً سابقاً في “الجيش الأحمر”، من الوصول إلى أوغندا. كان حظه أن تبنته السيدة لانييرو كريستين أووانج، وهي سيدة أعمال أوغندية من قبيلة الأشولي في غولو، لانييرو هي شقيقة الجنرال أوتيما أووانج، القائد الحالي لقوات الاحتياط في قوة دفاع الشعب الأوغندي (UPDF).
كانت لانييرو تربطها علاقات ومعاملات تجارية بعم بول ميل، قرنق دينق أقوير، وهو رجل أعمال نشط كان يقيم في أوغندا ويتنقل بين كمبالا وغولو وأرووا، حيث كان يدير فندقاً، يُرجح الكثيرون أن هذه العلاقة التجارية هي السبب وراء تبني عائلة أووانج لبول ميل.
التحق بول مل، الذي كان لا يزال شاباً يفتقر للخبرة ويعاني من الصدمات النفسية، بمدرسة مورتشيسون فولز الابتدائية، ثم انتقل إلى مدرسة غولو العامة الابتدائية حيث نال شهادة ترك المدرسة الابتدائية الأوغندية في عام 1994. بعد ذلك، مكنته عائلة أووانج من التسجيل في معهد رسل يسوع الإكليريكي الصغير في موروتو، حيث أكمل شهادة التعليم الأوغندية في عام 1998. وبعد فترة إجازة طويلة، التحق بـكلية سانت بول في إمبالي، وأكمل شهادة التعليم المتقدم الأوغندية (UACE) في عام 2000.
بحلول هذا الوقت، كان بول ميل قد أعاد توطيد علاقاته بعمه، حيث تشاركا لاحقاً في جوبا، بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل (CPA) في عام 2005، في إدارة مجموعة من المشاريع التجارية المشتركة.
سنوات نيروبي والبداية المثيرة للجدل
انتقل بول ميل بعد ذلك إلى الجامعة الأمريكية الدولية – أفريقيا (USIU) في نيروبي، كينيا، لمتابعة دراساته الجامعية في إدارة الأعمال الدولية، والتي أكملها في عام 2005 بعد تغلبه على عدة تحديات.
في الجامعة الأمريكية الدولية، بدأت مسيرة بول ميل تنحرف بشكل مثير للجدل، التحق بالجامعة بمنحة دراسية من كنيسة معمدانية، لكن تم إنهاء منحته لاحقاً “لأنه تخلى عن التزامه المسيحي الهادئ بعد أن غرق في الحريات والترف الذي يصاحب الحياة الجامعية”.
في أواخر العام 2001 وأوائل عام 2002، انضم بول ميل إلى برنامج العمل والدراسة المخصص للطلاب المحتاجين، وقد أتاح له هذا البرنامج العمل في مركز الوسائط المتعددة ثم في مختبر الحاسوب، حيث اكتسب مهارات متقدمة في تكنولوجيا المعلومات (IT) أصبحت أساسية في مخططاته اللاحقة لجمع الأموال عبر الاحتيال الإلكتروني.
كان النظام المالي للجامعة يفرض على الطلاب الممولين من جهات راعية عدم سحب الأموال من حساباتهم دون إذن صريح من تلك الجهات.
استغل بول مل هذه الثغرة بذكاء تكنولوجي، وتواصل مع أشخاص متورطين في قسم الحسابات بالجامعة، وبدأ في اختراق وسحب الأموال من حسابات الطلاب مقابل تقاضي حصة، بعد أن اكتشف الطلاب أنهم يستطيعون سحب الأموال دون تصريح من رعاتهم، حقق بول مل شهرة فورية وثروة ضخمة.
بدأ يعيش حياة مترفة، ويدعو أصدقاءه باستمرار إلى كافيتريا الجامعة باهظة الثمن. لاحقاً، وبمساعدة من طلاب جنوب سودانيين، تم تقديمه إلى مسؤول في مجلس الكنائس السودانية الجديد (NSCC)، ثم إلى الأسقف قيصر مازولاري، أسقف أبرشية رومبيك الكاثوليكية، الذي رتب له منحة دراسية سخية جداً، مكنته هذه المنحة من استئجار منزل فخم من ثلاث غرف نوم في حي رويسامبو الراقي في نيروبي، وتسريع وتيرة دراسته.
خلال فترة وجوده في الجامعة، كان بول مل يسعى ببراعة لتكوين علاقات مع أسر قادة الحركة الشعبية/الجيش الشعبي. وقد زار منازل شخصيات محورية مثل الدكتور جون قرنق، والقائد سلفا كير، وغيرهم. وأثبتت هذه الاتصالات أنها استثمارات لا تقدر بثمن بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005 واستقلال جنوب السودان عام 2011.
واصل بول ميل مساعيه التعليمية لاحقاً؛ فحصل على الماجستير التنفيذي العالمي في إدارة الأعمال عام 2011، ثم درجة الدكتوراه في إدارة الأعمال عام 2016. ومع ذلك، تتردد مزاعم داخل الجامعة مفادها أن بول مل لم يحضر دروسه للشهادات العليا، وأن أعماله الأكاديمية وأطروحة الدكتوراه تم إنجازها بواسطة مساعدين مأجورين، وتحديداً صديق كيني يدعى أوور إيمانويل أوكودي، والذي نفى ذلك لاحقاً عندما تم الاتصال به انكر ذلك.
كان أوكودي يقوم بمهام أخرى لبول ميل، منها صرف مبالغ كبيرة من العملات الأجنبية في نيروبي، وقد قام بول ميل بتمويل تعليمه الجامعي وتوفير راتب جيد له.
التحول إلى جوبا واغتنام الفرص
في أواخر العام 2005، بعد حصوله على درجة البكالوريوس، قام بول ميل بتسوية خلافاته مع رعاته السابقين في الكنيسة المعمدانية، وزعم لاحقاً أنهم منحوه شاحنتين كبداية عمل، روى أنه أجر هاتين الشاحنتين للحركة الشعبية/الجيش الشعبي في رومبيك (المقر الفعلي آنذاك) لمدة عام، وأنه كان مستحقاً لمبلغ 135,000 دولار أمريكي كأجور متأخرة.
سرعان ما حصل على وظيفة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) وانتقل إلى رومبيك، ابتداءً من أوائل عام 2007، كثف بول ميل سفره لجوبا للمطالبة بمستحقاته من الحركة الشعبية، بعد أن شعر بالإحباط، قرر الاستقالة من وظيفته في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والانتقال بشكل دائم إلى جوبا.
هناك، أعاد التواصل مع آرثر أكوين، الذي كان يشغل منصب وزير المالية في حكومة جنوب السودان الوليدة، وعلى الرغم من أن مكتب الوزير كان مكتمل الموظفين، إلا أن أكوين عينه “سكرتيراً خاصاً للمهام الخاصة”. وبذلك، وصل بول ميل إلى مصدر الأموال الحكومية في جنوب السودان، حيث قدم مطالبته بإيجار الشاحنتين، وتم دفع مستحقاته بشكل عاجل وسخي.



