في ظل الحرب المستعرة والانهيار المؤسسي، يتساءل السودانيون عن سُبل استعادة الدولة دون إعادة إنتاج أدوات القمع التي أطاحت بها ثورتهم.
القيادي في تحالف صمود محمد الفكي يرى أن وقف الحرب يمثل الخطوة الأولى نحو مسار سياسي جديد يفتح النقاش حول القضايا المؤجلة والجروح الطازجة التي خلفها الصراع.
في حوار لراديو، يتناول الفكي مأزق قوى الثورة، ومعضلة الهوية، وإمكانيات بناء مشروع وطني جامع، مؤكدًا أن تحالف الفساد والعنف هو من جرّ البلاد إلى هذا الدمار، وأن كسر هذا التحالف يبدأ بالشجاعة في تسمية الأشياء بأسمائها.
كيف يمكن للسودانيين، استعادة الدولة المختطفة دون إعادة إنتاج أدوات القمع ؟
الدولة نفسها الآن على المحك، إذ تحللت معظم ممسكاتها السياسية والاجتماعية نتيجة سنوات طويلة من القمع واختراق المنظومة الأمنية للمجتمع المدني والأهلي والأحزاب السياسية. كانت ثورة ديسمبر علامة مضيئة وفرصة لترميم أجهزة الدولة التي حطمها التمكين والاستبعاد السياسي والإثني. لكن انقلاب أكتوبر 2021، وكان انقلاباً عجولاً وغبياً، لم يُحسن حتى قراءة المهددات الأمنية الداخلية، وسرعان ما تفككت المنظومة الأمنية نفسها، وتقاتلت فيما بينها، فأدخلتنا في هذا النفق المظلم.
بالعودة إلى السؤال، فإن الخطوة الأولى هي إيقاف هذه الحرب وفتح مسار سياسي شامل لطرح عشرات القضايا المؤجلة، وأخرى نتجت لاحقاً من هذه الحرب المزلزلة. وطبعاً لا يمكن الإحاطة بكل هذه القضايا في هذه العجالة.
ما السبيل إلى بناء مشروع وطني جامع يتجاوز الانقسامات الإثنية والجهوية، ويُعيد تعريف الهوية السودانية على أساس المواطنة والكرامة؟
لا يمكن بناء مشروع وطني ما لم يكن هناك اعتراف بأن هذه الرقعة الجغرافية التي تجمعنا تسكنها شعوب شديدة التنوع، ولها كامل الحق والطموح في المشاركة في صياغة هذا الوطن ليصبح ملكاً لنا جميعاً. ولن يتحقق ذلك إلا عبر مشروع ديمقراطي وتمثيل عادل في كافة أجهزة الدولة، وعلى رأسها المؤسسة الأمنية، التي ظلت حتى الآن حصناً مظلماً لا تتوفر معلومات دقيقة حول تركيبته الاجتماعية.
تفاقم الأمر عندما تحولت أجهزة الدولة إلى أدوات عنف تحمل هوية سياسية واضحة وانحيازاً لمشروع إقصائي، وهو ما يظهر جلياً في خطابها في مواجهة “الآخر”.
المشروع الوطني يبدأ بطرح الأسئلة “الممنوعة”، من الهوية إلى تقاسم السلطة والموارد، مروراً بتركيبة الأجهزة الأمنية وضرورة حيادها.
هل تستطيع قوى الثورة أن تنتقل من الاحتجاج إلى التأسيس، ومن الشارع إلى المؤسسات، دون التفريط في جذوة الوعي الثوري؟
قوى الثورة اليوم أمام امتحان حقيقي، وهي بعيدة عن موطن قوتها الأساسي، وهو الجماهير والحراك المدني. تواجه واقعاً معقداً، فالحرب أدواتها مختلفة، والصوت الغالب فيها هو صوت البندقية.
لكن رغم ذلك، يظل مطلوباً منها الكثير في ملف السلم الأهلي، حتى لا تنحدر البلاد من قتال مسلح بين أطراف سياسية إلى حرب أهلية شاملة. عليها أيضاً بذل جهد سياسي ودبلوماسي لدفع المتقاتلين إلى طاولة التفاوض. وقبل ذلك، هناك واجب إنساني ضاغط لا يحتمل الانتظار، يتعلق باللاجئين والنازحين والاحتياجات الإنسانية العاجلة.
كيف يتم تحويل الذاكرة الجماعية للحرب والمجاعات والانتهاكات إلى قوة سياسية وأخلاقية تدفع نحو عدالة انتقالية حقيقية لا تسويات فوقية؟
تجارب الحروب موجودة في كل العالم. هناك شعوب نهضت من وسط الرماد بدروس جديدة وملهمة، وذاكرة حية وطموح نحو حياة أفضل، وهناك شعوب تبددت وأصبحت جزءاً من كتب التاريخ كأممٍ آفلة.
واجب القيادة في هذه اللحظة التاريخية أن تكون ثابتة، تنظر إلى المستقبل وتبشّر به، فالقائد هو من يرى بعيداً، ويظل ثابت الجنان في لحظات المِحَن، ولديه القدرة على مواصلة الطريق.
لدى السودان ما يؤهله للنهوض، من موارد بشرية وطبيعية هائلة. فقط علينا أن ننظر إلى ما يحدث الآن كدرس قاسٍ من دروس التاريخ لا يجب أن يتكرر.
ما هو شكل الاقتصاد الممكن في السودان ما بعد الحرب؟ وكيف يمكن كسر الحلقة الجهنمية بين الفقر والفساد والنخب المسلحة؟
الاقتصاد يواجه أسئلة كبرى. فالحرب دمّرت البنية التحتية الصناعية، من طرق وجسور ومحطات كهرباء. وكان لدينا أصلاً عجز مريع في قطاع الطاقة، والآن تضاعف الوضع تعقيداً.
لكن كل ذلك يظل ثانوياً مقارنة بما حدث من نهب منظم لموارد البلاد خلال الحرب، وتغوّل شبكات الفساد التي نمت وترعرعت وأصبحت صاحبة مصلحة مباشرة في استمرار الحرب.
توحشت هذه الشبكات، وبدأت تمنح الحرب غطاءً دينياً تارة، ودستورياً تارة أخرى، بينما الحقيقة أنهم مجرد لصوص يريدون استمرار غياب الرقابة الشعبية والمؤسسية.
عقب الحرب، من الضروري تفكيك مركزية الاقتصاد وإعادة بناء البنية التحتية، خصوصاً في الطاقة والنقل، ومحاربة الفساد بشكل جذري. بقية القطاعات ستنهض بجهد السودانيين وموارد بلادهم.
كيف يتم التصدى لهيمنة الخطابات العسكرية والدينية الرجعية على الفضاء العام، ونفتح الطريق أمام خطاب مدني إنساني ينهض بالبلاد؟
الخطابات العسكرية والدينية الإقصائية تنمو وتزدهر في لحظات الشمولية والاضطراب. وهي خطابات لا تخاف إلا من النور والمواجهة.
الخطاب العسكري يحب الحرب، فهي ملعبه، وأدواتها بالكامل في يده، وتصبح الحياة كلها ملحقة بالمعركة: الإعلام يصفق، الفن يمجّد، والشعب يُهتف باسمه. أما من يسأل “لماذا نموت؟” فمكانه محجوز في دفتر الخونة.
وقف الحرب واستعادة الحياة المدنية والحريات وفتح الفضاء العام للنقاش الحر، هو الخطوة الأولى لهزيمة هذه الخطابات.
هل تمتلكون الشجاعة لتسمية الأشياء بأسمائها: أن الحرب في السودان ليست قدراً، بل نتيجة مباشرة لتحالف الفساد مع العنف؟ وكيف يمكن تفكيك هذا التحالف؟
الحرب في السودان لم تكن قدراً، بل نتيجة مباشرة لانقسام قوى المصلحة في الوحدة والاستقرار، بينما توحّد تحالف العنف والفساد.
وهو تحالف شرس ودموي، لا يتردد في استخدام أقصى درجات البطش إذا ما اقترب أحد من مصالحه. أثبتت الأيام أنه لا مانع لديهم من إحراق البلاد كاملة إذا طالب الشعب بأن تكون بلاده له.
نعم، نحتاج إلى شجاعة التسمية والمواجهة، فهي الخطوة الأولى في طريق التفكيك.