بين تطمينات الحكومة وتحذيرات الصحة العالمية: هل الكوليرا في السودان تحت السيطرة أم خارجها؟

رغم التصريحات المطمئنة من وزارة الصحة السودانية، لكن تبدو أزمة الكوليرا في السودان أكثر تعقيداً من مجرد “انخفاض مؤقت” في أعداد الإصابات. 

فبينما يقول الوزير بأن المرض بات “تحت السيطرة”، تشير بيانات الأمم المتحدة ومنظمات دولية إلى تفشٍ غير مسبوق، مع تجاوز عدد الإصابات 65 ألفاً، ووفاة أكثر من 1,700 شخص في ظل شلل تام في النظام الصحي.

تناقض في الروايات الرسمية والدولية

قال وزير الصحة السوداني في مقابلة مع راديو تمازج ” إن حملات التطعيم وتحسين التنسيق الميداني ساعدت على تقليل الإصابات، خصوصاً في محلية جبل أولياء بولاية الخرطوم، التي شهدت تفشياً عقب استخدام مياه ملوثة بعد تدمير محطات المياه على يد قوات الدعم السريع.

لكن منظمة الصحة العالمية تؤكد أن الوضع لا يزال “حرجاً”، محذرة من انهيار تام للاستجابة الوبائية؛ بسبب الحرب المستمرة منذ أبريل 2023، وما رافقها من تدمير للمرافق الصحية ونقص في التمويل وتعليق بعض المنظمات لنشاطها.

تزايد الإصابات والوفيات في الخرطوم

التقارير الرسمية تشير إلى تسجيل 2,729 حالة كوليرا و172 وفاة في أسبوع واحد، تركز معظمها في محليات أم درمان، كرري، وأمبدة. 

وتقول نقابة الأطباء إن أم درمان وحدها سجلت 1,335 إصابة و500 وفاة. فيما قدّرت منظمة الصحة العالمية عدد الإصابات في الخرطوم بـ 6,223 حالة، مع تحذيرات من تعرض مليون طفل للإصابة نتيجة تدهور المياه.

الأزمات تتضاعف: أوبئة متعددة ونقص الدواء

لا تقتصر الكارثة الصحية على الكوليرا. فقد سجلت 12,886 إصابة بحمى الضنك، و134 إصابة بالسحائي، و54 حالة بالحصبة، إضافة إلى انتشار التهاب الكبد الوبائي في شرق البلاد.

أما الدواء، فهو نادر ومهرب عبر طرق غير رسمية. ويقول الصيدلاني علاء بدر لتمازج إن سلاسل التوريد انهارت، والواردات تراجعت من 360 مليون دولار إلى مليوني دولار فقط خلال سبعة أشهر.

مستشفيات عاجزة ومرضى على الأرض

مستشفى “النو” في أم درمان أغلق أبوابه بعد أن استقبل أكثر من 100 حالة يوميًا دون توفر الأدوية والمحاليل. ويؤكد الأطباء أن بعض المرضى يُعالجون على الأرض، بينما يعتمد التشغيل على مولدات في ظل نقص الوقود.

وتقول منظمة “أطباء بلا حدود” إن سبع وحدات فقط تقدم العلاج حاليًا، وسط عجز في مواجهة الاحتياجات المتزايدة، داعية إلى دعم عاجل لمنع “كارثة إنسانية مكتملة الأركان”.

البنية التحتية المنهارة وموسم الأمطار

منذ أغسطس 2024، اجتاح الوباء 12 ولاية من أصل 18. ويُعزى ذلك إلى انهيار شبكة المياه والصرف الصحي، وتوقف أكثر من 90% من المستشفيات. فحصت السلطات 1,415 مصدر مياه، وتبيّن أن 328 منها ملوثة.

ومع دخول موسم الأمطار، يخشى الأطباء من انتشار أوسع للوباء وسط غياب نظام إنذار مبكر.

دعوات لإعلان الطوارئ

رغم تفشي المرض بهذه الخطورة، لم تُعلن الحكومة السودانية بعد “حالة طوارئ صحية”، ما يعوق عمل المنظمات الدولية. وتؤكد نقابة الأطباء أن التأخير يفاقم الوضع، ويعيق تنسيق التدخلات الدولية.

ويحذر الأطباء من أن الاستجابة “أقل من الحد الأدنى المطلوب”، داعين إلى تحرك فوري قبل تحوّل المرض إلى وباء طويل الأمد يصعب احتواؤه.

وفي أم درمان، توقّف مستشفى “النو” عن العمل بعد أن فاقت قدرته الاستيعابية، حيث كان يستقبل أكثر من 100 حالة يوميًا، وسط نقص فادح في المحاليل الوريدية والأدوية الأساسية.

 وقال د. سيد محمد عبد الله، الناطق باسم نقابة الأطباء، لـ “لتمازج “، إن “الوضع خرج عن السيطرة”، داعيًا إلى إعلان حالة طوارئ صحية فورية.

وأشار إلى أن 90% من الإصابات تتركز في ولاية الخرطوم، لكن هناك مخاوف جدية من انتشار المرض في مناطق نائية تُعاني أصلًا من تدهور الخدمات وغياب الاتصال. وقال “نحن لا نملك حتى الحد الأدنى من أدوات مكافحة العدوى، ونفتقر إلى القدرة على مواصلة العمل وسط هذا الانهيار الكامل للمنظومة الصحية”.

وأضاف الناطق الرسمي باسم النقابة: “الكوليرا ليست مجرد وباء، بل إنذار شامل بانهيار الدولة. المستشفيات بلا ماء، بلا كهرباء، بلا دواء، والعاملون في الحقل الطبي منهكون دون حماية أو دعم. إذا لم تتحرك الحكومة الآن، فإن الكارثة لن تبقى صحية فقط، بل ستصبح أمنية واجتماعية شاملة”.

بين الخطاب الرسمي الذي يبعث على الاطمئنان وتحذيرات المنظمات الدولية، يقف ملايين السودانيين وجهاً لوجه مع وباء ينهش ما تبقى من نظامهم الصحي، وسط حرب مزّقت البلاد وأنهكت مرافقها، بينما لا تزال قرارات الطوارئ مؤجلة، والأدوية شحيحة، والمياه ملوثة.